كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
قال: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} فنصب: {مُصَدِّقًا} لأنه خبر معرفة.
و: {تَقْتُلُونَ} في معنى قَتَلْتُم. كما قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المئة:
وَلَقَدْ أمرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّني ** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلتُ لا يَعْنِيني

يريد: لقد مَرَرْتُ بقوله أَمُرُّ.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ}.
قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} فهو نحو ما زَيْد بِمُزَحْزِحِهِ أنْ يُعَمَّرَ وما زَيْد بِضارِّهِ أَنْ يقُومَ ف {أنْ يُعَمَّرَ} في موضع رفع وقد حسنت الباء كما تقول: ما عبدُ الله بملازِمِهِ زَيْد.
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
قوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} ومن العرب من يقول: {لِجِبرئِيلَ} فيهمزون ولا يهمزون، وكذلك: {إسرائيل} منهم من يهمز ومنهم من لا يهمز، ويقولون: {مِيكائِيل} فيهمزون ولا يهمزون ويقولون: {مِيكال} كما قالوا: {جِبْرِيل}. وقال بعضهم: {جبرعَل} ولا أعلم وجهه إلا أني قد سَمِعت: {إِسرائِل} وقال بعضهم: {إسْرِييلِ} فأمال الراء. قال أبو الحسن: في جبريل ست لغات: جَبْراييل وجَبْرَئيل وجَبْرئِلْ جَبْراعيل جَبْرَعِيل جَبرعل وجَبْريل وجِبريلَ فَعليل فِعليل وجَبْرائِل. جبراعل.
{مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوّ لِّلْكَافِرِينَ}.
قال: {مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوّ لِّلْكَافِرِينَ} فأظهر الاسم وقد ذكره في أوَّل الكلام. قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المئة:
ليتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعَبُ دَائِبًا ** كانَ الغُرابُ مُقَطَّعَ الأوْداجِ

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيق مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
قال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا} فهذه واو تجعل مع حرف الاستفهام وهي مثل الفاء التي في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُول بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ} فهذا في القرآن والكلام كثير، وهما زائدتان في هذا الوجه. وهي مثل الفاء التي في قولك: أَفَا الله لَتَصْنَعَنَّ كَذَا وكَذا وقولك للرجل: أَفَلا تَقُوم. وإن شئت جعلت الفاء والواو هاهنا حرف عطف.
{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} معطوفان على: {الْمَلَكَيْنِ} أو بدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان وموضعهما جر. و: {بابلَ} لم ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل مؤنث على حرفين أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنث فهو لا ينصرف ما دام اسما للمؤنث.
وقال: {حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} فليس قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} جوابا لقوله: {فَلاَ تَكْفُرْ} إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}. وقال: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما زوج، فالمرأة زوج والرجل زوج. قال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقال: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. وقد يقال أيضًا هُما زَوْج للاثنين كما تقول: هُما سَواء و: هُما سِيّانِ. والزَوْج أيضًا: النَمَطُ يُطْرَحُ على الهَوْدَجَ. قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المئة:
مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يظُلُّ غِصيَّةُ ** زَوْج عَلَيهِ كِلَّة وَقِرامُها

وقد قالوا: الزَوْجَة. قال الشاعر: من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المئة:
زَوْجَةُ أَشْمَطَ مَرْهُوبٍ بَوادِرُهُ ** قَدْ صارَ في رَأْسِهِ التَخْويصُ والنزَعُ

وقال: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فهذه لامُ الابتداء تدخل بعد العلم وما أشبهه ويبتدأ بعدها، تقول: لَقَدْ علمت لَزَيد خير منك قال: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} وقال: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}.
وقال: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ثم قال: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني بالأولين الشياطين لأنهم قد علموا: {ولَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني الانس. وكان في قوله: {لَمَثُوبَة} دليل على أُثِيبُوا فاستغني به عن الجواب.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْر لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْر} فليس لقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا} جواب في اللفظ ولكنه في المعنى يريد لَأُثِيبُوا فقوله: {لَمَثَوبَة} يدل على لَأُثِيبُوا فاستُغْنِيَ به عن الجواب. وقوله: {لَمَثُوبَة} هذه اللام للابتداء كما فسرت لك.
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
قال: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} أي: ولا مِنَ المُشْرِكِين لا يَوَدُّونَ: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ}.
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقال بعضهم: {نَنْسَأْها} أي نُؤَخِّرْها، وهو مثل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَة فِي الْكُفْرِ} لأنَّهُ تأخير. والنَسِيئَةُ والنَسِيءُ أصْلُهُ واحد من أنسأت إلاّ أَنَّكَ تقول: أَنْسَأتُ الشَيْءَ أي: أَخَّرْتُه ومصدره: النَسِيءُ. و: أَنْسَأْتُكَ الدَيْنَ أي: جعلتك تؤخِّره. كأنه قال: أَنْسَأْتُكَ فنَسَأْتُ والنَسِيء أنَّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر. وقال بعضهم: {أَوْ نَنْسَها} كل ذلك صواب. وجزمه بالمجازاة. والنسيءُ في الشهر: التأخير.
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
قال: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} ومن خفف قال: {سُيِل} فان قيل: كيف جعلتها بين بين وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة. والياء الساكنة لا تكون بعد ضمة، والسين مضمومة؟ قلت: أَمَّا في فُعِلَ فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة لأنهم قد قالوا قُيْل وبُيْعَ وقد تكون الياء في بعض فُعِلَ واوا خالصة لانضمام ما قبلها وهي معه في حرف واحد كما تقول: لم تَوْطُؤ الدابَّةُ وكما تقول: قَدْ رُؤِس فلان.
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
قال: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فزعموا أن الهُود: جماعة الهائِد. والهائد: التائِب الراجع إلى الحق. وقال في مكان آخر: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا} أي: كونوا راجعين إلى الحق، ويقال هائِد وهُوَّد مثل ناقِه ونُقَّه، وعائِدْ وعُوَّد، وحائِل وحُوَّل، وبازِل وبُزَّل. وجعل: {مَن كَانَ} واحدا لأنَّ لفظ: {مَنْ} واحد وجمع في قوله: {هُودًا أَوْ نَصَارَى}. وفي هذا الوجه تقول: مَنْ كانَ صاحبك.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَاب عَظِيم}.
قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} إنما هو مِنْ أنْ يُذْكَرُ فيها اسمه ولكن حروف الجرّ تحذف مع أَنْ كثيرًا ويعمل ما قبلها فيها حتى تكون في موضع نصب، أو تكون: {أَن يُذْكَرَ} بدلا من المَساجِد يريدون: مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ أَنْ يُذْكَر.
وقال: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} فهذا على مَنَعَ وسَعَى ثم قال: {أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائفِينَ} فجعله جميعًا لأنَّ: {مَنْ} تكونُ في معنى الجماعة.
{وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِع عَلِيم}.
قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} لأنَّ: {أَيْنَما} من حروف الجزم من المجازاة والجواب في الفاء.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
قال: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فرفعه على العطف كأنه إنما يريد أن يقول: إنَّما يَقُولُ كُنْ فَيكونُ وقد يكون أيضا رفعه على الابتداء. وقال: {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فان جعلت: {يَكُون} هاهنا معطوفةً.
نصبت لأنَّ: {أَنْ نَقُولَ} نصب بأَنْ كأنه يريدُ: {أَنْ نَقُولَ} {فيكونَ}. فان قال: كيف والفاء ليست في هذا المعنى؟ فان الفاء والواو قد تعطفان على ما قبلهما وما بعدهما، وإن لم يكن في معناه نحو ما أنتَ وزيدًا، وإنما يريد لم تضرب زيدًا وترفعه على ما أنت وما زيد وليس ذلك معناه. ومثل قولك: إيّاكَ والأَسَدَ. والرفع في قوله: {فيَكُونُ} على الابتداء نحو قوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} وقال: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا}. وقد يكون النصب في قوله: {ويَتَّخَذَها} وفي: {نُقِرَّ في الأرْحامِ} أيضًا على أوَّلِ الكلام. قال الشاعر فرفع على الابتداء: من الوافر وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المئة:
يُعالِجُ عاقِرًا أَعْيَتْ عَلَيْهِ ** لِيَلْقِحَها فَيَنْتِجُها حُوارا

وقال الشاعر أيضًا: من الطويل وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المئة:
وما هُوَ إلاّ أَنَّ أَراها فُجاءَةً ** فَأَبْهَتُ حَتَّى ما أَكَادُ أُجِيبُ

والنصب في قوله: {فأَبْهَتُ} على العطف والرفع على الابتداء.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.
قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} وقد قرئت: {ولا تَسْأَلُ} وكلّ هذا رفع لأنه ليس بنهيٍ وإنَّما هو حال كأنه قال: ارْسَلناكَ بشيرًا ونذيرًا وغيرَ سائِلٍ أو غيرَ مَسئول وقد قرئتا جزما جميعا على النهي.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
قال: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} كما يقولون: هذا حَقّ عالمٍ وهو مثل هذَّا عالِم كُلُّ عالِمٍ.
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
قال: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} أي: اختبره. و: {إِبْرَاهِيمَ} هو المبتلي فلذلك انتصب. وقال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لأنَّ العَهْدَ هو الذي لا يَنالُهُم، وقال بعضهم: {لا ينالُ عهدي الظالِمُون} والكتاب بالياء. وإنما قالوا: {الظالمونَ} لأنهم جعَلوهُم الذينَ لا ينالون.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
قال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} على: {اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [122]: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} وأُلْحِقَتْ الهاءُ في المَثابة لما كُثُر مَنْ يَثُوب إليه كما تقول: نَسَّابَة وسيّارَة لِمَنْ يكثُر ذلك منه.
وقال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} يُريدُ: {واتَّخَذُوا} كَأَنَّهُ يقول: واذْكُروا نِعْمَتي وإذْ اتَّخَذُوا مُصَلى من مَقامِ إبراهيمَ و: {اتخَّذُوا} بالكسر وبها نقرأ لأنَّها تدلّ على الغَرْض.
وقال: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ف {السُّجُودِ} جماعة السَّاجد كما تقول: قَوْم قُعُود وجُلوس.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذابَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ف {مَنْ آمَنَ} بدل على التبيان كما تقول: أَخَذْتُ المالَ نِصْفَهُ ورأيتُ القومَ ناسًا مِنْهُم. ومثل ذلك: {يَسْئَلُونَكِ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} يريد: عنْ قِتالٍ فيه. وجعله بدلا.
ومثله: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ومثله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} شبيه هذا أيضا إلاّ أنه قدر فيه حرف الجرّ.
وقال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} على الأمر: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فجزم: {فَأَمْتِعْهُ} على الأمر وجعل الفاء جواب المجازاة. وقال بعضهم: {فَأُمَتِّعُهُ} وبها نقرأ رفع على الخبر وجواب المجازاة الفاء.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
قال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} أي كانَ إسْماعِيلُ الذي قال: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} وقال بعضهم: {وأَرْنا} أسكنْ الراء كما تقول: قَدْ عَلْمَ ذلك وبالكسر نقرأ. وواحد المناسِك: مَنْسِك مثل مَسْجِد ويقال ايضا: مَنْسَك.
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
قال: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فزعم أَهل التأويل أنه في معنى: سَفَّهَ نفسَه وقال يونس: أُراها لُغَة. ويجوز في هذا القول: سِفِهْتُ زَيْدًا، وهو يشبه غِبَنَ رأيَه وخَسِرَ نَفْسَه إلا أن هذا كثير، ولهذا معنى ليس لذاك. تقول: غِبَنَ فيَ رأيِهِ وخَسِرَ في أَهْلِهِ وخَسِرَ في بيعِه. وقد جاء لهذا نظير، قال: ضُرِبَ عبدُ اللّهِ الظهرَ والبَطْنَ ومعناه: على الظهر والبطن كما قالوا: دَخَلْتُ البيتَ وإنما هو دَخَلْتُ في البيتِ. وقوله: تَوَجَّهَ مَكَّةَ والكُوفَةَ وإنما هو: إلى مَكَّة والكُوفَةِ. ومما يشبه هذا قول الشاعر: من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون:
نُغالِي اللَّحْمَ لِلأَضْيافِ نِيْئًا ** وَنَبْذُلُهُ إذا نَضِجَ القُدورُ

يريد: نُغالى باللحم. ومثل هذا: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ} يقول: لأوْلادِكمُ و{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي: عَلَى عُقْدَةِ النِكاحِ. وأحسن من ذلك أن تقول: إنَّ سَفِهَ نَفْسَهُ جرت مجرى سَفُهَ إذْ كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى نَفْسِه ورَأيِهِ وأشباهُ ذا مِمّا هو في المعنى نحو سَفِهَ إذا لم يتعد. واما غَبِنَ وخَسِرَ فقد يتعدى إلى غيره تقول: غَبِنَ خَمْسين وخَسِرَ خَمْسِين.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ}.
قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ} فهو- والله أعلم- وقَالَ يعقوبُ يا بَنِيَّ لأنه حين قال: {وَوَصَّى بِهَا} قد أخبر أنه قال لهم شيئا فأجرى الاخير على معنى الأول وإن شئت قلت: {وَيَعْقُوبُ} معطوف كأنك قلت: ووصَّى بها ابراهيمُ بنيه ويعقوبُ ثم فسر ما قال يعقوبُ، قال: يا بني.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} استفهام مستأنف.
وقال: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} فأبْدَلَ إذْ الأخرة من الأولى.
وقال: {الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} على البدل وهو في موضع جر إلا أَنها أعجمية فلا تنصرف.
وقوله: {الهًا وَاحِدًا} على الحال.
{تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال: {تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} يقول: قَدْ مَضَتْ ثم استأنف فقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ}.
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
قال: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بالنصب.
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}.
قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} بالنصب. لأنهم حين قالوا لهم: {كُونُواْ هُودًا} [135] كأنه قيل لهم: اتَّخِذُوا هِذِهِ المِلَّةَ فقالوا: لا: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: نَتَّبِعُ مِلَّةَ إبْراهيم، ثم أبدل الصِّبْغَةَ من المِلَّة فقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} بالنصب. أو يكون أراد: كونوا أصحابَ مِلَّةٍ ثم حذف أَصْحاب كما قال: {ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} يريد: بِرَّ مَنْ آمَن باللّهِ. والصِّبْغَةُ: هي الدين.
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}.
قال: {أَتُحَآجُّونّا} مثقلة لأنهما حرفان مثلان فأدغم أحدهما في الآخر، واحتمل الساكن قبلهما إذ كان من حروف اللين، وحروف اللين الياء والواو والألف إذا كن سواكن.
وقال بعضهم: {أتُحاجُّوننا} فلم يدغم ولكن أخفى فجعل حركة الأولى خفيفة وهي متحركة في الوزن، وهي في لغة الذين يقولون: هذِهِ مائة دِّرْهَمٍ يشمون شيئًا من الرفع ولا يبينون وذلك الاخفاء. وقد قرئ هذا الحرف على ذلك: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} بين الادغام والاظهار. ومثل ذلك: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} وأشباه هذا كثير وادغامه أحسن حتى يسكن الأول.
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
قال: {أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} قال بعضهم: {أَمْ تَقُولُونَ} على: {قُلْ أَتُحاجّونَنا} و: {أَمْ تَقُولُونَ}. ومن قال: {أَمْ يَقُولُونَ} جعله استفهاما مستأنفا كما تقول: إنَّها لإِبِل ثم تقول: أَمْ شاء.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
قال: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} يعني القِبْلَةَ ولذلك أنث.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} لأنْ معنى قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ}. ولو أَتَيْتَ. إلا ترى أنك تقول: لَئِنْ جِئْتَنِي ما ضَرَبْتُكَ على معنى لَوْ كما قال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّواْ} يقول: وَلَو أَرْسَلْنا رِيحًا لأن معنى لَئِنْ مثل معنى لَوْ لأنّ لَوْ لم تقع وكذلك لَئِنْ كذا يفسره المفسرون. وهو في الإعراب على أَنَّ آخرَهُ معتمد لليمين كأنه قال: والله ما تَبِعُوا أي: ما هم بمتَّبِعين.
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
قال: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} على ضمير الاسم ولكن استُغْنِيَ عنه لما ذكره كأنه قال. هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَة هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَة هُوَ مُوَلِّيهَا} على: ولِكل أمَّةٍ وُجْهَة وقد قال قوم: {وَلِكُلِّ وُجْهَةٍ} فلم ينونوا كلّ. وهذا لا يكون لأنك لا تقول: لِكُلِّ رَجُلٍ هُو ضارِبُه. ولكن تقول: لِكُلِّ رَجُلٍ ضارِب فلو كان هُوَ مُوَلٍّ كان كلاما. فأما مُولِّيها على وجه ما قرأ فليس بجائز.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فهذا معنى لكن. وزعم يونس أنه سمع اعرابيًا فصيحا يقول: ما أشْتَكِي شَيْئًا إلاَّ خَيْرًا وذلك أنه قيل له: كَيْفَ تَجِدُكَ. وتكون إلاّ بمنزلة الواو نحو قول الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الثلاثون بعد المئة:
وأَرى لَها دَارًا بأَغْدِرَةِ السـ ** ـيِدانِ لم يَدْرُسْ لَها رَسْمُ

إلاّ رَمادًا هامِدًا دَفَعَتْ ** عَنْهُ الرياحَ خَوالِد سُحْمُ

أراد: أرى لَها دارًا ورمادًا. وقال بعضُ أهْلِ العِلم أن الذين ظلموا هاهنا هم ناس من العرب كانوا يهودًا أو نصارى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه، فاما سائر العرب فلم يكن لهم حجة وكانت حجة من يحتج منكسرة. إلا إنك تقول لمن تنكسر حجته أن لك علي الحجة ولكنها منكسرة وإنك تحتج بلا حجة وحجتك ضعيفة.
وقال: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} يقول: لأنْ لا يَكُونَ للناسِ عَلَيْكُمْ حُجة ولأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيكُم عطف على الكلام الأول.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}.
قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [152] أي كما فعلت هذا فاذكروني.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَات بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}.
قال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَات} على: وَلا تَقُولُوا هُمْ أموات. وقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} نصب على تَحْسَبُ، ثم قال: {بِلْ أَحْياء} أي: بلْ هُمْ أحياء. ولا يكون أنَ تجعله على الفعل؛ لأَنهُ لو قال: بلْ احْسبُوهم أحياءَ كان قد أمرهم بالشك.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِر عَلِيم}.
قال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إطَّوَّفَ يَطَّوّفُ؛ وهي من تَطَوَّفَ. فأدغم التاء في الطاء، فلما سكنت جعل قبلها الفا حتى يقدر على الابتداء بها. وإنما قال: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} لأن ذلك كان مكروها في الجاهلية في الجاهلية فأخبر أنه ليس بمكروه عنده.
{إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
قال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأنه اضاف اللعنة ثم قال: {خَالِدِينَ فِيهَا} [162] نصب على الحال.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.
قال: {وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعًا} فإنَّ مكسورة على الابتداء إذ قال: {وَلَوْ تَرى}.وقال بعضهم: {ولو يَرى الذين ظلموا إذ يَرَوْنَ العذاب أن القوةَ لِلّهِ جَميعًا} يقول: وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ القُوَّةَ لِلّه أي: لَوْ يَعْلَمون لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال: {وَلَوْ تَرى} فإنما يخاطب النبي صلى الله عله وسلم ولو كسر إنّ إذا قال: {وَلَوْ يَرى الذينَ ظَلَمُوا} على الابتداء جاز لو يرى أو يعلم. وقد تكون في معنى لا يحتاج معها إلى شيء تقول للرجل: أما وَاللّهِ لَوْ تَعْلَم ولَوْ يَعْلَم قال الشاعر: من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المئة:
إنْ يَكُنْ طِبَّكِ الدَّلالُ فَلَوْفِي ** سالِفِ الدَّهْرِ والسنينَ الخَوالِي

فهذا ليس له جواب إلاّ في المعنى. وقال: من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المئة:
فَبِحَظٍّ مِمَا تَعيشُ ولا تَذْ ** هَبْ بِكَ التُّرهاتُ في الأَهْوالِ

فأضمر فعيشي. وقال بعضهم: {وَلَوْ تَرى} وفتح: {أَنَّ} على: {تَرى} وليس ذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم، ولكن أراد أن يُعْلِمَ ذلكَ الناسَ كما قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ليخبر الناس عن جهلهم وكما قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِيم}.
قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وإنما هي المَيِّتَةُ خففت وكذلك قوله: {بَلْدَةً مَيْتًا} يريد به ميّتا ولكن يخففون الياء كما يقولون في هيّن وليّن: هَيْن ولَيْن خفيفة. قال الشاعر: من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المئة:
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ ** إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ

فثقل وخفف في معنى واحد. فاما الميتة فهي الموت.
{أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}.
قال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} فزعم بعضهم أنه تعجب منهم كما قال: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} تعجبا من كفره. وقال بعضهم: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ} أي: ما أَصْبَرَهُم، و: ما الذي أَصْبَرهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فالخبر مضمر كأنه يقول: ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب لأنه قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك قد قيل لهم فالكتاب حق.
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
قال: {ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ثم قال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فهو على أول الكلام ولكنَّ البرَّ برُّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاةَ ثم قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ} ف {المُوفُونَ} رفع على ولكنَّ الموفين يريد بِرَّ الموفين فَلَما لم يذكر البرَّ أقام: {الموفونَ} مقام البرّ كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} فنصبها على: {اسأل} وهو يريد أهلَ القرية، ثم نصب: {الصَّابِرِينَ} على فعل مضمر كما قال: {لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} ثم قال: {وَالْمُقِيمِينَ} فنصب على فعل مضمر ثم قال: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فيكون رفعا على الابتداء أو بعطفه على الراسخين. قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد السابع والستون:
لا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ ** سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجَزْرِ

النَازِلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ** والطَّيِّبُونَ معاقدَ الأُزْر

ومنهم من يقول: النازلون والطيبين. ومنهم من يرفعهما جميعا وينصبهما جميعا كما فسرت لك. ويكون: {الصَّابِرِينَ} معطوفا على {ذَوِي الْقُرْبَى} {وَآتَى الصَّابِرِينَ}.
وقال: {فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ} فبناه على فَعْلاء وليس له أَفْعَلُ لأنه اسم، كما قد جاء أَفْعَل في الأسماء ليس معه فَعْلاء نحو أَحْمَدُ. وقد قالوا أَفْعَلُ في الصفة ولم يجئ له فَعْلاءُ، قالوا: أَنْتَ مِنْ ذاكَ أَوْجلُ وأَوْجَرُ ولم يقولوا: وَجْلاءُ ولا وَجْراءُ وهما من الخوف. ومنه رجل أَوْجَلُ وأَوْجَرُ.